نبوءات الحنين
تأليف: مودة عمر بن صريتي
كان صباحُنا هادئًا يُشبه في طيبهِ خبز التنور حين أيقظتنا أمّي على رائحته، تتنقل أمي بين غرفة وأخرى وهي تردد الشتاوات المفضلة لديها، يختلط صوت غليان "براد الشاهي" على موقد " البريميس" مع فرقعة الزيت حين تقلي فاطمة "السفنز" الذهبي، رأيتُها تفرك عينيها، يبدو أن الزيت أُعجب بهما فأراد أن يُلقي نظرة عن كثب، فاطمة تعتبر الصندوق الأسود للعائلة فهي البنت الكبرى، وحلقة الوصل بيننا حين يحدث صدام الحضارات، لطيفةٌ حدّ أن يُزهر ما تلمسه أناملها.
أمي معلمة تلوّح برغبتها في التقاعد قريبًا لكنها تؤجلها في محاولة لادخار ما يكفي لتغطية مصاريف عرس شقيقتي فاطمة حين يأتي صاحب النصيب، تتحول أمي بطريقة ما من معلمة اجتماعيات إلى كل شيء، هي القاضي والمحامي ومسؤول الإدارة المالية ووكالة الأنباء، نسألها عن كل شيء: " أمي أين ملابسي؟ أين شاحن الهاتف؟ أين ساعتي؟ هل أذهب للمحاضرات اليوم أم أبقى لأكمل أعمالي؟... أما أبي ففي غير جلساتنا حول العالة نسأله سؤالا واحدا معتادًا: أين أمي؟
على ذكر أبي عَطِر السّيرة، فهو الموظف المخلص في عمله والمصرف المركزي وعمود البيت، يجلس في الفناء منتظرًا كوب الشاهي بالحليب مع الكعك قبل أن يخرج في طلب رزقه، يبدو لك من انعقاد حاجبيه – اللذين كساهما الشيب تضامنا مع شعر رأسه ولحيته- أنه يحمل الجبل الأخضر على كتفيه، لكنه سرعان ما يبتسم لنور وآلاء وهما تتعقبان بعضهما، الصغرى نور تختبئ خلفه في لجوء سياسيّ قوي، وتميل برأسها فتتدلى ضفيرتاها البنيّتان كحبلَيْ أرجوحة لتُظهر لآلاء ابتسامة الظفر؛ فتدمع عيناها السوداوان ثم تعقد يديها على صدرها في احتجاج واضح وتولي مدبرة.
محمد أصغرنا، ذو الابتسامة الوادعة والصوت الطفوليّ البريء الذي يتحول بقدرة قادر إلى صفارة إنذار حين يحاول أحدنا تغيير القناة، كان ينام حتى تأتيه أمي وتجلس عند رأسه، تداعب شعره وتقول ببحتها الدافئة: "حمادي، نوض افطر سلم وليدي". وكأني به يتعمد إطالة نومه ليحظى بطقس خاص من طقوس الحنية التي تمارسها أمي. أما أنا أخوكم إبراهيم طالب تقنية معلومات في سنة التخرّج، بيني وبين الهندسة جدار، كانت حلمي فيما مضى لكنه مضى كما قلت، أعمل في شركة صغيرة، وماذا أفعل؟ كنت أترقب هبوط الليل كي أشعر بأمي وهي تضع الغطاء عليّ وتهمس بدعوات الخير والبركة، قبل أن تنسحب كنسمة تاركة على جبيني قبلة أستعين بها على تعب الدوام في اليوم التالي.
أحمد، جارُنا الشاب، صديقي وزميلي في الكلية (كما أحب وصفه فهو طيبُ القلب، فزّاعٌ يُعتمد عليه في نوائب الدهر) كان سيزورني الليلة لنجلس في مقهى الحيّ كعادتنا نتبادل الهموم والآمال، قبل أن تُلغى الجلسة لتقلّب أحوال الطقس، كانت تلك عادتنا الرتيبة التي كسرها إعصار دانيال حين فتح الباب على ليلٍ آخر، طويل كالانتظار، كئيب كالوَحدة.
هبط الليل.. هزَم الرعد وأومض البرق بشكل مرعب، تضاربت الأنباء حول المتوقع من عاصفة دانيال التي زارت المنطقة الشرقية من بلادنا، صلينا المغرب والعشاء جمعًا، وكنا بين مترقب ولا مبالٍ، أما عائلتنا فكانت بين البينين لذا قررنا أن نسهر معًا، التففنا حول أمي وأبي وهما يحدّثاننا عن حياتهما، تعتقد أمي أن طفولتها كانت الأصعب، ولكن والدي يحتجّ بأنه الذي عاش الظروف الأكثر صعوبة، شعرت حين حدّثنا عن كيفية ذهابه إلى المدرسة أنه " قراندايزر" أو "سبايدر مان" على أقل تقدير.
غمز لنا أبي تلك الغمزة التي نفهم منها أنه سيلقي لأمي مزحة تؤدي لتوتر العلاقات الأسرية أسبوعًا في أفضل الأحوال، وقبل أن يعلّق ذلك التعليق انضمت إلينا فاطمة والهلع يبدو على ملامحها، حينها انتبهنا للشريط الأحمر الذي كان يغطي نصف شاشة التلفاز، حلت الفيضانات بأهلنا في الجبل الأخضر، خاصة مدينتَي البيضاء وسوسة.
أزال قلقنا عليهم رغبة أبي في المزاح، ودارت دفة الحديث إلى حوار عن الكوارث الطبيعية التي حدثت في ليبيا، ولأن بلادنا ليست منطقة كوارث في العادة فلم يكن هناك الكثير للحديث عنه. رُفعت العالة بعد أن أنهى محمد " طاسة الشاهي بالكاكاوية" وهذا يعني انتهاء السّهرة، ختم أبي حديثه بتذكيرنا بقراءة الأذكار وسورة الملك قبل النوم، قبلنا يدي أمي وأبي ورأسيهما وذهب حزب الأولاد إلى غرفته وحزب البنات إلى غرفته بينما بقي الحاج والحاجة في غرفة المعيشة يتبادلان أطراف الحديث عن مشاكل العائلة ومستقبلها.
نام الصّغار مطمئنين بعد محاولات عديدة لإقناعهم ألا يخافوا، أما نحن الكبار فقد كان هدير الماء أعلى من أن يجعل للطمأنينة مكانا في قلوبنا، فتقلّبنا على أسِرّتنا بين نوم ويقظة. استيقظتُ على صوت أبي وهو يهاتف عمي، كنا الوحيدين من عائلتنا نسكن بجوار الوادي، أما البقية فكانوا موزعين على أحياء أخرى متفرقة، بدا لي أنه يطمئن علينا لكنّ ما أفزعني هو نبرة صوت أبي وهو يردد " اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك!".
خرجت من غرفتي فقابلتني أمي وهي تدعو على سجادة الصلاة، دخلت المربوعة حيث كان أبي وسألته إن كان قد حصل شيء فأخبرني أن الوادي قد تمرد على سده وأن بعض الشوارع قد غرقت حقا، ثم فجأة انقطعت الكهرباء!
لم نفكر بعد في الصعود للطابق الثالث، ظننتُ أننا في أمان ما دمنا في الطابق الثاني، أضأت مصابيحا تعمل بالبطارية، وضعت واحدا في غرفتي حيث ينام أحمد وذهبت لأوقظ فاطمة بهدوء كي تضع واحدا في غرفتها وتبقى على استعداد في حال اضطررنا للخروج من البيت، وجدتها مستيقظة وبدا لي أنها كانت تبكي، حاولت طمأنتها وانسحبت إلى حيث أبي، انهمكت أقلب في منشورات الفيسبوك، حتى سمعنا دويًّا مرعبا، تساءلنا أهذا صوت الرعد أم انفجار قذيفة؟
لم نكن مدركين أن السّد هو الذي انفجر في تلك اللحظة، وفاض التّنور، فاض ماءً لم أدرِ أكان يهطل من السماء أم يخرج من الأرض، كنت أُطل من النافذة أراقب منسوب الماء كيف يرتفع بجنون. أُكبّر، يرتفع الماء أكثر، تغرق السيارات والناس وقطط الشارع وكل شيء. رأيتُ عمارة اقتُلعت كشجرة يابسة، وكان الناس على أسطح البيوت يصرخون، لا ملجأ لنا إلا إلى الله، تحوّلتُ إلى جسد متخشب وأنا أرى السيل يغمر المنازل من طابق واحد ويغطي على صرخات أهلها وأضواء كشافات هواتفهم.
ذهبت مع أبي لنرى ما حل بالطابق الأرضي فوجدنا الماء يهجم من كل مكان ويرتفع بسرعة، كانت أمي قد أيقظت إخوتي وبدأ بيتنا يمتلأ ببكائهم، وعيونهم تحمل ألف سؤال عن مصيرنا، انكسر الباب فإذ بالماء يرتفع بتسارع محموم، صعدتُ وأبي إليهم بسرعة ونحن نهتف: اركبوا فوق امشوا للسطح! هربنا جميعًا قاصدين سطح البيت، آخر مكان يمكننا اللجوء إليه. ركضنا على الدّرَج المؤدي للطابق الثالث، كانت أمي بجانبي وآلاء على ظهري، فاطمة ومحمد أمامنا، وأبي يحمل نور، لا أدري كيف حدث كل شيء دفعة واحدة! تعثرت أمي وسقطت عن الدرج، وكان السيل يرتفع أكثر ويقترب، تركت آلاء لأبي، وعدت قاصدًا أمي لكن الفيضان كان أسرع مني وحال بيني وبينها. صعدت إليهم بسرعة، وصلنا الطابق الثالث، ركضنا لنبلغ الدرج المؤدي للسطح، لكن عُمر أبي خان قدرته على الركض السريع، وكان صوتهُ الحد الفاصل بين الحياة والموت حين ألقى إلي المفاتيح وهتف: "اجري أفتح باب السطح يا إبراهيم! اجري قبل ما ياخذنا السيل!"
بعدها لم أعُد أسمع سوى أزيز الرياح العاصفة، وهدير المياه المندفعة، صرخات إخوتي المغمورة، وصوت فاطمة وهي تردد الشهادتين وتدعو " سامحنا يارب سامحنا!"، حال الفيضان بيني وبينهم مرة أخرى، لم يكن هناك متّسع حتى للتفكير في محاولة إنقاذهم المستحيلة، ركضت إلى السطح ولساني لا ينفك عن ترديد الشهادتين، أغلقت الباب خلفي ثم أظلم كل شيء.
هبّ الضوء معلنًا أن الصبح أقبل، فطُويت صفحة الليل الطويل، الذي كان أطول ليل مر على أهل "درنة" منذ زمن، ومازال البعض رغم ذلك يعتقد أن الشمس لم تُشرِق بعد تلك الليلة، لكن ما أعرفه أنها كانت أطول من أعمارنا كلها مجتمعة.
غِيض الماء، وسكنت الأصوات، تلاشى صدى الصرخات وهدير المياه، ذبلت ملامح مدينتي، الشوارع مكسوة بالطين، تتناثر فيها بقايا أثاث وأبواب من كل منازلها، السيارات كعلب السردين، ترى الناس يطوفون كأنهم سكارى وما هم بسكارى، كل شيء قد تغير، مسحة الحزن تكسو وجوه الجميع، والذعر ما زال قابعًا في غرفات القلوب، الأطفال الذين بُعثرت طفولتهم وقفوا مشدوهين عاجزين عن إيجاد تفسير.
استفقتُ مرميًّا على سطح المنزل مبلل الثياب حولي بركة كبيرة على امتداد السطح، أجزم أنني كنت أبدو كإسفنجة قديمة ملقاة تحت الحوض منذ أشهر، استجمعتُ نفسي ونظرت من حاشية السطح، رأيتُ ما لا يمكنني نسيانهُ بقية العمر، جثامين أهل مدينتي تطفو على بقايا الماء الراكد، وأخرى يحملها تيار الماء المُطيّن الذي مازال يتحرك، أهذا يوم الحشر؟ لا أعرف ملامح الحيّ لا أتذكره، حيثما نظرت لا يوجد سوى طرق مجروفة، وجثث رجال ونساء وأطفال طافية أو معلّقة، وبعض الأحياء الذين يمشون لا تلقي لهم بالا لكثرة الأموات، نظرت في كل مكان ولم أجد غير الموت، خرجت من باب السطح فتذكرت أنني في بيتنا الغارق، تذكرت ما حدث ليلة الأمس دُفعة واحدة، يمتلئ الطابق الأرضي بحطام نوافذ وأبواب وقطع خشبية لا تجزم ما كانت عليه سابقا وجذوع أشجار لا علم لي من أين أتت، كان من المجهد التفكير في مصير عائلتي، وكيف نجوت أنا من دونهم، هل كُتب عليّ أن أبحث عن جثامينهم بين هذا الركام؟
استجمعت ما تبقى لي من عقل وبدأت البحث عنهم في كل مكان، بين الأثاث المحطم، تحت الحجارة المتراكمة وبين الأبواب والنوافذ المخلوعة، كنت أعلم أن احتمال نجاتهم ضئيل جدًّا، ولم أشأ أن أهب قلبي أملا زائفًا، فتّشت الطوابق الثلاث دون فائدة، كنت أدعو أن أجدهم وإن كانوا قد فارقوا الحياة أن تكون جثامينهم سليمة لا يروعني منظرها، أن أستطيع أن أودعهم للمرة الأخيرة وهم في هيئة تختلف عن تلك الهيئات المروّعة التي رأيتها حين استرقت النظر من السطح.
سأعود للبيت لأجمع كل ما بقي لي من ذكراهُم، حين حدّثت نفسي عن الذكرى قفز إلى ذهني حديث قصير مع أحمد في المقهى قبل أيام، بكيتُ بحرقة، كأن قلبه حمل نبوءة بحلول الكارثة لكن أحدًا لم ينتبه حتى هو.. كان يجلس شاردًا حتى أن القهوة في الفنجان أمامه بردت وأصابها السأم، فقُلت مناكفًا:
" خيالك مدينا له يد.. ستر ربي ما حدانا حد"
رمقني بنظرة استهجان ورد قائلا: ريت أنا وين وأنت وين يا إبراهيم!
أوليته إيماءة متسائلة عما كان يفكر فيه فأردف:
سماح السيرة.. فكرت كيف نكون سمح السيرة! كلنا حنقعدوا ذكرى، يارب نقعدوا ذكرى طيبة. لم أُعِر كلمة " ذكرى" معنى عميقًا حينها، لكن الفيضان شرحها لي بأبجدية لا تُنسى، رحلوا جميعًا وصاروا ذكريات، عائلتي وأحمد وآلاف من أبناء مدينتي.
يُدرك المرء ضعفه حين تتجلى أقدار اللّٰه التي لا حول لهُ فيها ولا قوّة، انكسر فينا جميعًا كل مثقال ذرة من كبر، أدركنا حجمنا الحقيقي وافتقارنا إلى ربنا، تغيرت ملامح المدينة، وكذا قلوبنا قد تغيّرت وأوقن أنها لن تعود كما كانت غافلة أبدًا.
مر اليوم ثقيلًا، بين محاولات الإنقاذ وجمع الجثامين والتعرف عليها ودفنها، وبين حملات الإغاثة والدعم النفسي، صارت بلادي يدًا واحدة لمساندتنا بعد الطوفان، أمّا أنا فكنت أحوم هنا وهناك أساعد بكل ما بوسعي، أنقل جثامين عائلتي، كلهم كانوا عائلتي، كانت هويّتنا واحدة في ذلك اليوم: مُسلمون أصابهم فيضان، كل غريق كان ينتمي إليّ، صدق القائل أن المصائب يجمعن المُصابين، لم يكن بيننا سوى صلة الموت، حين أتعب أنتقل إلى الساحات التي سُجّي فيها الضحايا بين معروف باسمه ومجهول الهوية أبحث عن أفراد أسرتي واحدًا واحدًا، وقد وجدتهم بعد طول بحث، كان النظر إليهم وهم في تلك الحال يحتاج أطنانا من الصبر لم أكن أملكها، لكنني بفضل الله تماسكت، كثرة الأهوال ولدّت نوعا من تبلد الدموع فلم تهطل بغزارة كما توقعتها، أم أنها كانت فوبيا مؤقتة من الماء فلم أشأ أن ينسكب على وجهي؟ كلها احتمالات واردة.
مشاهد كثيرة أكثر من قدرة القلب على التجلّد، صرخات تملأ رأسي حتى تصيبني بالصداع (هتافهم لرجل يجرفه التيار: قاوم، قاوم! بكاء طفل ينادي: يا أمي أنتِ وين؟ حسرة أب وهو يناشد من انتشلوا ابنه: خلوني ندفنه أنا! وجملة قالها أحدهم وهو يصور آثار الفيضان: هذي درنة كان تعرفوا منها شي حاجة!)
في الليل عُدت لمنزلنا، ذلك البيت من ثلاث طوابق الذي كان شاهدًا على حياة أهله وموتهم أيضا، لم يكُن هناك باب لأطرقه، دلفتُ وجِلا، خُيّلت إليّ أيّام كانت أمي تستقبلني فيها بأحضانها، رائحة الطين ليست محببة إليّ، أفضّل رائحة الحلوى التي تُبدعها فاطمة حينما تشعر بالملل، تذكرت مشاغبات آلاء ونور حين تتشاجران على قطعة الحلوى الأخيرة، فكرت في محمد، فقط لو يعود أعده أني لن أحاول تغيير القناة أبدًا، ليت غياب أبي كان لأنه تأخر في العمل كعادته.
دخلت غرفتي واستلقيت على السرير متعمدًا ألا أتغطى، تهيأت لي تلك اللحظات حين كانت أمي تمسّد شعري وتهمس بالدعاء، شعرت بالبرد، تسلل البرد لقلبي، ناديت أمي: "نسيتِ أن تغطيني!" في لحظة، طغى طوفان الدموع، خرجت أهرول لغرفتها فكانت خالية إلا من الأثاث، تردد في داخلي صدى كلمات سمعتها ذات يوم وكانت عابرة، لكنها اليوم وقرَت في قلبي ولم تعبر: "لمن ماشي يا ماشي رد.. الدار خلا ما فيها حد.ذ "
منذ ذلك اليوم والليل رفيق حزني، أنادي فيه أسماء الذين مضوا (أمي، أبي، فاطمة، آلاء، محمد، نور) تتردد أصداء صوتي فأحسب أن أحبابي أجابوا، ثم تبتلعها الحقيقة حين أستعيد صوابي، كلهم قد رحلوا، صليت عليهم الجنازة ودفنتهم بيدي واحدا تلو الآخر، لكن عقلي يصر على العبث معي، أفتح النافذة لأتنفس فتصدر صريرا يشبه زغرودةً مبحوحة، أكاد أغلقها حين تتتابع أمامي صور من لحظات الطوفان، أبتعد عنها، أستلقي على سريري ثانية وأغطي وجهي بالغطاء، لقد أخذهم الطوفان وانتهى، لكن نار الحنين في قلبي لن تنطفئ أبدًا، أسائل نفسي كل حين: من سيُنقذ الغرقى في بحار الألم والحنين؟
شعرتُ أن إبراهيم الذي كُنتهُ تُرِك على درَج بيتنا، أسير تلك اللحظة وما فيها من رعب وحيرة وعجز، لامست يدي شيئا ما بجيبي، أخرجته فإذا هو كل ما تشبث بي من لحظاتي الأخيرة مع عائلتي، المفاتيح! كان آخر ما تردد في بالي قبل أن يختطفني النوم، صوت أبي حين ألقى إليّ المفاتيح وهتف بين أنفاسه اللاهثة: "اجري أفتح باب السطح يا إبراهيم، اجري قبل ما ياخذنا السيل!".
مودّة عُمر بن صريتي، كاتبة على الطريق وطالبة طب بشريّ، ليبية من مدينة مصراتة، تُوّجت مسيرتها الأدبية المبكّرة بحصولها على المركز الأول في مسابقة القصة القصيرة للجامعات الليبية في دورتها الخامسة عن قصّتها " أكفان مؤجلة"، تعمل حاليا كاتبة ومدققة لغوية في مجلة " الوقورة"، إلى جانب مشاركاتها السابقة بعدد من المجلات والإصدارات الإلكترونية، وتوثيق نصوص لها في مجلة فضاء العربية، تسعى للمساهمة في نشر الوعي الثقافي وإغناء المشهد الأدبي الليبي والعربي انطلاقا من تجربتها، وتحفيزًا للأقلام الإبداعية الواعدة.

