بلل
تأليف: محمد عبد السلام النائلي
مطار معيتيقة الدولي.
في قاعة الانتظار، أهز رأسي رغم ثقله المتمثل في شعر مجعد ينسدل على رقبتي، توزعت الأثقال إلى ما أبعد من ذلك، يبدو أن ساقي النحيلتين لا تقوى على رفع جسدي وأسمالي البالية، التي لم تكن سوى (سروال توتة وسيرية الأهلي وحقيبة تحتوي على نايلو صوبات أخضر)، تناغم صخب المكان مع قرع (شبشبي الصبع) وهو يعانق أرضية المطار القذرة، ويترك عقبي يترنحان في الهواء دون عناق، كم أنت أحمق أيها العقب، يخونك مع قاذورات الأرضيات وتأبى أن تفارقه، بل تعود لتطبع قبلة على ظهره، لا لن أقبل بهذا الهراء، (اللي بدلك بالفول بدله بقشوره) لا بأس اتكأ على أطراف أصابعك، المهم أن لا تنصاع له، أترجل متمايلا كالسكران على أطراف أصابعي، بينما لم تثر انتباهي تلك التحديقات المريبة.
أمام التلفاز العريض، أشد ظهري رغم انحناءه، أقلب الرحلات بسقفي عيني، (إسطنبول، القاهرة، تونس) أخيرًا حقل الحمادة، وتحتها بالخط الأحمر العريض مؤجلة، تنهدت بعد أن انحنى ظهري إلى ما أسفل من ركبتي.
على المقعد الحديدي تريح مؤخرتك رغم برودته، تمد ساقيك على طولهما، تداعب (الشبشب) من جديد، تنفض شعرك ليتفرق ويحلق في الجو في مشهد لا يقل جودة عن تلك الطائرات.
شاب بدين، محمر الوجه، ذو لحية مدببة وشارب غير مهذب، يغلق براحتيه عن فمه ليخفي ذلك الشارب المجعد، يصيح عاليا:
حقل الحمادة! ... حقل الحمادة!
وكأنه في محطة (الافيكوات) وليس في مطار!
ربما استحى أن يناديها في الميكروفون فهي لا تساوي نظائرها، كف عن هذا، الحمادة ليست كاسطنبول، ولا يحق لها أن تذكر في تلك الإذاعة، ولا يليق بها أن تمططها تلك الموظفة بصوتها المزعج.
نتدافع على باب الطائرة كأطفال المدرسة في يومهم الأول للظفر بالمقاعد الأولى، ولكن هذه المرة كان الدافع المقاعد التي بجانب النوافذ، لنستمتع بشاطئ عروس البحر الذهبي، وتراب الحمادة الأحمر الذي تزينه الأنابيب الملتوية كالأفعى من فعل الحرارة.
فتح باب الطائرة مصدرا صريرا خافتا (الربيع من فم الباب يبان)، الصهد الداخل من الباب يكفي لتدفئة الطائرة بأسرها.
امتدت أشعة ضوء الشمس البهيجة، قارعت أشعتها جبهتي الملساء العريضة، بينما تبلورت حبيبات العرق أسفل ذقني، (بلكات*) سكنية مهترئة، تعلوها شقوق عشوائية، تلتف حول باحة كبيرة، نتدافع مرة أخرى، نقف طابورا فنحن شعب نعشق الطوابير، أمام قسم الإسكان، يأتي (الكامبوس*) وهو يهز مؤخرته، يهتز معها صوت حزمة المفاتيح المعلقة في خصره، يقعد وراء مكتبه، تنزلق نظارته لتصل إلى أرنبة أنفه، بينما ينظر إليك بسقفي عينه، ويقول ببرود:
- بلك 9، الحجرة 36.
ممر طويل باهت الألوان، يتأرجح في منتصفه خيط رفيع، وأبواب خشبية مصطفة حد البصر، الغرفة 36، اركل الباب بباطن قدمك وادخل، لا داعي للطرق هنا فهو سبيل المرموقين.
حجرة مربعة تنبعث من جدرانها رائحة الدخان وبعض - البافرات - طليت بلون لا أعرفه إذ أنه يسودها السواد، سرير يتكئ على الحائط، وفراش تعلوه طبقة برونزية لا أعلم مصدرها، بساط تكسوه بقع سوداء من فعل السجائر، أغلق النافذة بخرقة لتمنع ضوء الشمس من التمدد، أفرش (نايلو الصوبات) الأخضر على السرير، ولا أنسى الوسادة التي تحجرت من لعابي المنساب على سطحها، أرتدي بدلة السباحة (فرعة وكاناتيرا)، وأختمها (بسالطو) صدر تحبو فيه بالجو قبل أن تبسط جسدك ليداعب الفراش الهزيل؛ ليصبح بعدها ركاما من فعل الصدمة.
يرن هاتفك، ذات المتصل وفي ذات التوقيت، تضعه على أذنك المدورة، دون الاستفسار عن هوية المتصل:
- راك تشرب امية يا وليدي، ومتنساش تخش الحمام قبل ما ترقد.
مللت الوصايا التي امتدت لثلاثة عقود أو يزيد، ولكن أكان للأم أن تمل؟
أم كان يحق لها أن تنسى ولدها؟
تعتصر اللحاف، تحتضن الوسادة، تبتسم لعل الغد يكون أجمل، ترسم أحلاما بتغير الواقع، بأن لا تسبح في ساعات الفجر الأولى، كما كان إخوتي يعيرونني:
"شن مشيت للبحر اليوم."
استغرقت سنوات لفهم هذه العبارة.
أرفع جفني الذين أثقلهما النعاس على صوت المنبه، تتسارع يدي إلى ما أسفل من (صرتي) قبل أن تمتد للمنبه؛ تحلق اليد مسيرة سنة، تتباعد المسافات، تصطدم بالواقع، صباح بائس لا يقل سوءا عن سابقه، ترتطم بالبلل الذي أغرقك إلى إبطيك، تفوح رائحة البول معلنة عن رحلة غوص ليست بالهينة.
***
(هنقر زينقو) ضخم كهناقر الدجاج، يتصاعد منه دخان كثيف ولكن هذه المرة ليس دخان سجائر كتلك المشاهد المبتذلة الممنهجة بطريقة مملة في كتابة القصة القصيرة، كان دخان اللحام الذي حجب الرؤية عن اللافتة المتأرجحة في الهواء، تتشبت بمسمار وحيد، لا يزال يصارع رغم فداحة الموقف، مكتوب عليها ورشة اللحام المركزية، وتحتها بخط يكاد يفهم (منبع الرجال)، هنا لا مكان لأصحاب (القامجوات) النظيفة، يتحتم عليك أن يكون قامجوك مرقعا باليا، قد أخذت فيه النيران حصة حتى أصبح مثقوبا كالغربال.
دائرة كبيرة يصعب عد أفرادها، يتوسطها القامجو الحاج، وهل يخفى القمر! فهو نجم السهرة على حد وصف القامجو الصبي، يجلس على كرسي جلد دوار، رجل ستيني اشتعل رأسه شيبا، عيناه محمرتان، يتطفل من صدره ثلة من الشعر الأبيض كصوف الغنم، كرشه كبيرة تتدلى خارج جسده، يطبطب عليها بين الفينة والأخرى وهو يتبادل أطراف الحديث، يجب عليك الاصغاء لحديثه الممل المنمق بعبارات غير مفهومة.
يتكسل ، يتثاءب، يعصر جسده، يضرب كرشه ويقول:
"ما لحقتوش على أيام الأمريكان، اييي بالله، أيام كانوا ميعرفوش يحلوا مشكلة يجوني يجروا، راحت الأيام بالله."
توزع باقي القامجوات الابتسامات، يصفق القامجو الصبي بحرارة، يصيح:
"هدر يا ثلب"، يتحمس الحاج، ينفخ جسده، يبسط منكبيه، يكمل الحديث عن بطولاته الوهمية، يتدلى رأسي في الفراغ من شدة الملل، يهبط على صدري، يسيل لعابي، أغط في نوم عميق .
(عنفقة) من العيار الثقيل، تحط رحالها على رقبتي، لم أحدد مصدرها، وقفت من فعلها متسمرا، ضحكات مجلجلة يطلقها الجميع بلا استثناء، بلعت لعابي لأبلل حلقي الذي جففته تلك القهقهات، بينما كان البلل يستولي على جذعي، لم أحتج إلى التحسس هذه المرة، أطبق القامجو الحاج بإصبعيه على أنفه، هز القامجو الصبي أكتافه في جو من الشك، فيما سارع بمنديل معطر إليه، أومأ القامجو الحاج برأسه إيماءة قبول متعجرفة، صفعني على عنفقتي مرة أخرى بشدة، وقال:
"نوض حشمتنا، راجل طول وعرض وتعمل فيها على روحك."
لم أجد لعابا لأبلل حلقي هذه المرة، ربما استنفذته في التبول، أو أحتاج إلى بلل بعد هذا البلل!
تبعثرت الكلمات، تمتمت بعبارات غير مفهومة، ركضت بسرعة، تبعتني الهتافات:
"شخاخ على روحه... يبي دار بروحه."
- أين السبيل إلى الغرفة؟
- لا أدري.
كل ما أعرفه هو يجب ألا يراني أحد، أصابع عديدة تشير تجاهي، تمتد إلى ما أبعد من ذراعه لتخترق فؤادي، أتعثر، أتدحرج، يلتصق التراب الأحمر ببولي، أتمرغ، أزحف، أحبو، المهم ألا أتوقف، تتــبعني التحديقات، والأصابع، والقهقهات.
***
تتكرر ذات الجلسة المدورة، يتوسطها القامجو الحاج مجددا، لا جديد يذكر ولا قديم يعاد، يناجي الجميع الإله بقرب تقاعده، يبتسم بخبث وهو يفكر، هل ينقص من عمره عامين أو ثلاث، يخرج صرة النفة من جيبه، يكورها بإصبعيه، يضعها تحت شاربه العلوي.
يددن القامجو الشاعر:
ودع هريرة إن الركب مرتحل..........وهل تطيق وداعا أيها الرجل
غراء فرعاء مصقول عوارضها .......تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل
يطأطئ القامجو الحاج رأسه، ينهمك في هاتفه، يستفهم الجميع باخراج باطن شفتيهم السفلى، يستطرد شاعرنا، ولسان حاله بالليبي:
طويلة وشقراء وبنت أجواد.........تلم العيلة على البراد
يطرب الجميع، يصرخ القامجو (الشهلولي)، يقفز من مكانه، يغنيها (كشتاوة)، يكشك بحرارة فيما يكشك الجميع بصخب.
يرن هاتف القسم عاليا، لا يجرؤ أحد على الرد، حتى القامجو الحاج يرتعد على عوده، سكون تام وترقب للمصير، يرفع السماعة:
مشرف الانتاج بصوته المستفز:
"يوجد تسريب بخط البئر 19."
يتأففون ضجرا، يعقصون حواجبهم، يكمشون جباههم، يعكرون صفوتهم، يصرخ القامجو الشهلولي عاليًا:
العين اللزازة .......لين تموت وهي في العازة.
…..مسكوا على العين اللزازة
يطربون مع الشتاوة مرة أخرى، وينهمكون في كشك لا نهائي.
بركة نفطية كبيرة، أنبوب مثقوب، ونافورة عالية تداعب السماء، التفتوا إلي برؤوسهم دون أجسادهم، وقالوا بصوت واحد:
"هي يا سباح، انت متعود كل يوم تعوم."
يرتدون بدلات بيضاء، ونظارات شفافة، (وقمباليات) صفر إلى أعالي الفخذين.
لا أحد يريد أن يسقط، أتحرك ببطئ، أنقل قدماي رغم ثقلهما، أترنح ذات اليمين وذات الشمال، يحك القامجو الحاج رأسه:
"وروني فلاحتكم، في الثمانينات موقف تسريب أقوى منه بروحي، لين الأمريكان قعدوا يصفقولي."
أنظر إليه بعينين مشدوهتين:
- هروك، سفتول زيك بيعبوا عليه الأجانب، ما كنتش إلا تطيب في الشاهي للجماعة.
تهتز أركاني، ينحدر التراب من تحتي، ألوح بيدي عسى ألا أفقد توازني، بسرعة خاطفة أسقط في البركة، قهقهات تتعالى، وأصابع تمتد مرة أخرى.
يتساءل القامجو الصبي:
- خيره هذا مبلول لصرته؟
القامجو الحاج:
- شكله عملها على روحه مرة ثانية.
يسعل، يضحك بقوة، فيما يتبعه الجميع كأذناب البقر بقهقهات متواصلة.
***
صفارات إنذار الحريق تغزو المكان بشراسة، لا تميز أحدا من شدة الركض، تجمهر حشد غفير في باحة الحقل، حفاة الأقدام، لا يرتدون سوى (سراويل عربية وكاناتيرات بائدة)، وجوه شاحبة، صدور تعلو وتهبط، أنفاس غير منتظمة، وأسنان مصطكة، فوضى عارمة، وضجة علت تلك الصفارات غلظة، صعد مراقب الحقل على تلك الصخرة، صاح عاليا:
- اسكتوا، اعطونا معاكم كلمة يا جماعة، رحلة الطائرة اللي روحت اليوم الصبح طاحت في نص البحر، أجهش للبكاء، تفوه بشفتين مرتعدتين:
- المصيبة إنهم ماتوا كلهم، ما قعد فيها حد عايش.
لم يستطع تمالك نفسه، انهمر في البكاء، غطى عينيه بباطن يده، باتت بعض الأجساد طريحة، فيما ناح البعض كنواحات الجاهلية وهم يحثون التراب على رؤوسهم ويمزقون الكاناتيرات البائدة؛ خيم الحزن على المكان، قهقهة عالية أطلقها لم يجدوا لها تفسير، جذبت المراقب من رقبته، سحبته إلى وجهي، أعد ما قلت؟ سحق الجميع، ههههههه، وأين؟
في البحر هههههههه.
بالتأكيد أنهم قد ابتلوا، يا ترى هل ابتلت بناطيلهم فقط؟ أم ابتلت جميع أجسادهم؟
لا أنت مخطئ، لم يبتلوا، ربما قد بالوا على أنفسهم، نعم البول هو من بللهم وليس الماء.
أبسط يدي، وأبدأ العد، القامجو الحاج، الصبي، الشهلولي، الشاعر، (الهيدوق)، الخبير، الوهمي، وفي كل مرة أتلعثم وأعاود الكرة.
تعتلي الشمس السماء بوضوح، تلقي بأشعتها الذهبية في الأفق، أطبق بكلتا يدي على بندقيتي، الخطر يقترب، كن حذرا، تهبط الطائرة في مطار الحقل، أحدد الهدف، وأنهال عليه بالرماية، ينزل قامجو جديد، لم تحدد هويته بعد، هل هو صبي أم هيدوق؟
لكن تبدو عليه ملامح الهيدوق، يرتدي بدلة رسمية وربطة عنق، وكندرة سوداء مدببة المقدمة، أهناك من يرتدي بدلة في الصحراء!
يشير بإصبعه تجاهي، يواري حركة شفتيه، يهمس في أذن أحدهم، يجيبه وهو يهز رأسه بحسرة:
"هذا ليه فوق من عشرة سنين هكي، معاش روح من لما طاحت الطائرة، يمسك بالعصا ويرمي على الطائرة- كما يزعم- مدوراش ما يقرب في حد، رد بالك تقرّب منه المية بس."
حقا لا أتذكر آخر مرة استحممت فيها، أرتدي فرعة حمراء وكاناتيرا بذات اللون، أنفش شعري المليء بالقمل المنسدل على كتفي، يتطاير منه القمل في قفز موحش.
سالطو صدر على الكثبان الرملية، أسبح سباحة الفراشة تارة وسباحة الصدر تارة أخرى، يتبعني سراب القمل، يتطاير عاليا، يقفز سالطوات صدر، يغوص في الرمال، لا أدري هل سيسبح سباحة الفراشة أم الصدر، أقهقه عاليا، فيما أسمع صوت قهقهات بعيدة، أظنها قادمة من سراب القمل.
__________
الكامبوس: هو الشخص المسؤول عن قسم الإسكان بالحقل.
بُلُكْ: وجمعها بلكّات وتطلق على المباني السكنية.
محمد عبد السلام النائلي، من مواليد طرابلس عام 2005، كاتب شاب، يهوى كتابة القصة القصيرة، تحصل على الترتيب الأول على مستوى ليبيا في مسابقة دروب كتاب للقصة القصيرة قصته (حلوى ملطخة بالدماء)، لديه مجموعة قصصية بعنوان (عروس البحر) لم ترى النور بعد.

