بائع الوقت
تأليف: أحمد علي الفاخري
"جئت قاصدًا جدِّي الأكبر (أوتنابشتيم) الذي دخل في زمرة الآلهة، ونال الحياة الخالدة، أريد أن أسأله عن سر الحياة والموت".
ملحمة جلجامش، اللوح التّاسع – العمود الثالث
(1)
في زقاقٍ متعرّج باهتٍ يعصف به الخريف، امتدّ الطابور أمام محلٍّ عتيق يبيع الوقت، كانت وجوه المنتظرين مصفرّة كالأوراق المتساقطة، يترقّب كلّ منهم دوره بلهفة كأنّ عمره معلّق بيد العجوز خلف الطاولة، وكان المحلّ العتيق الصامد في وجه الزمن غارقًا في الشّحوب، وتتدلى فيه الساعات بمختلف أشكالها وأحجامها مثل فخاخ صامتة، وتحت ساعةٍ ضخمة كتب باللون الأسود: "كل ثانية لك هي دينٌ على الدولة"، هناك جلس بائع الوقت المسنّ، أبيض الشعر، بوجهه المتغضن ذي الأخاديد العميقة، يرتدي نظارات سميكة تلمع كلما حرّكها بأصابعه الضامرة.
عندما وصلني الدور نهض بهدوء، وبكلماتٍ بالكادِ استطاعت الخروج من فمه العتيق سألني:
- كيف أخدمك؟
- لم يتبقَّ لديّ من الوقت الكثير.. أريد المزيد.
- كم تحتاج؟
- لا أدري أُريد وقتًا بكلّ ما أملك.
وضعتُ على الطّاولة المغبرّة نقودًا وبعض القطع المعدنيّة الثّمينة كنت قد أخرجتها من حقيبة أحملها.. ذهب.. فضة.. خنجر صغير مذهب ورثته عن أبي الّذي بدوره ورثه عن جدّي، بعض مجوهراتِ أمّي الرّاحلة، وأشياء أخرى اعتقدت أنها من الممكن أن تكون ذات ثمن، واستأنفت:
- أريدُ وقتًا بكلّ هذا.
حرّك نظّاراتِهِ وهو يتفحّص كلّ ما وضعته أمامه، ثمّ قال وهو يحدّق في ملامحي الغضّة:
- تفعل هذا للمرّة الأولى؟
- نعم، كان أبي قد ترك لي ما يكفي، لكن الحكومة استولت على وقته ورحل.
ألقى عليّ نظراتِهِ الجامدة، فيما ظلّ يُحصِي ثمن كلّ ما هو أمامه.
- تخرّجت قبل أيام وتحصلت على وظيفة، أريد وقتًا يكفي لأتزوّج وأنجب أطفالًا... أن أربيهم حتى يكبروا، لا أريد أن أتركهم أيتامًا قبل أن يستطيعوا شراء أوقاتهم الخاصة.
سلّمتُهُ السّاعة وملأها لي بالوقت، أعطاني ما يكفي من الوقت، هكذا قال لي، ثمّ.. وأنا أهمّ بالخروج.. قال بكلّ رتابة:
- كن على حذر والتزم بالقوانين، الحكومة قد تأخذ وقتك.
خرجتُ من معركة الأجسادِ المتطاحنة، ظافرًا بما أمِلتُ الحصُولَ عليه، بقي عليّ أن أراجع رُزنامة الأعمال خاصّتي، أن أُرتِّبَ حياتِي بحسَبِ الوقت الّذي تحصّلتُ عليه، أخرجت المذكّرة وبدأتُ في إعداد المواقيتِ فيها، فيما كنت أسير في الشّارع، لا وقتَ لأُضيِّعه. ينسكبُ المارّة في الشّارِعِ بلا هوادة، لا يبدو أنّ أيًّا منهم لديه ما يكفي من الوقت ليُضيِّعه، حتّى أولئك المتسوّلون الّذين يلقي إليهم المارّة ببعض فُتاتِ الأيّام.
بقي عليَّ أن أحسبَ الوقتَ اللاّزم حتّى أتزوّج، بحسبِ ما أتقاضاهُ من وظيفتي، ثمّ سأبحث عن زوجة ملائمة تُشارِكُنِي معركة الأوقاتِ هذه، قبل أن أنجِبَ أبناءً يذكرونني في فوضى النّسيانِ، سأعمَلُ جيّدًا حتّى أوفّرَ لهم وقتًا يلائمُ طموحاتِهم، الّتي سأدرّبهم على العيش من أجلها.
أوقفتُ سيّارة تاكسي، حثّني السّائقُ على الرّكوبِ بسُرعة، الطّريقُ مزدحِمٌ جدًّا في هذه الظّهيرة الشّاحبة، بالكادِ تتمكّن السّيّارات من الحراك، فيما سيمفونيّة الأبواق النّشاز تصدحُ في الأرجاء، تتلوّنُ إشاراتُ المرور بأضوائها الرّتيبة المملّة، ويبلغُ الضّجرُ أقصى حدُودِه.
لوهلة وقفت.. قبل أن أصعد السّيّارة.. أتأمّل وجه السّائِقِ المسنّ، بدى قريبًا من عمر بائع الوقت، أو أصغر سنّا بقليل، صرخ في وجهي:
- هل ستصعد أم لا؟
ارتبكتُ.. وصعدتُ من فوري، وحرّكَ السّيّارةَ يلقِي بها في عُبابِ الزّحام، فيما يوزّع الشّتائِم والسّباب يمينًا ويسارًا لا يهمّه إن كان هو المُخطِئُ أو المُصيب، فعل كلّ ذلك بعد أن أخبرتُهُ بِوِجْهَتِي، ثمّ قال:
- ... الحكومة اللعينة... تسرق أوقاتنا ولا تفعل شيئًا لهذا الزحام الذي يلتهم أعمارنا.
قبل أن أصِلَ إلى وجهَتِي تجرّأتُ على سؤاله:
- كيفَ عِشتَ كُلَّ هذا الوقت؟
بدا لي من الغريبِ أن يعيش شخصٌ كلّ هذا الوقت، ثمّ يظلّ متمسّكًا بعمله سائقًا لتاكسي.. في طُرُقٍ مزدحمة.. أكثر ما تفعلُهُ بنا هو إهدارُ أوقاتنا.
قال لي بعدم اكتراث:
- بعض الرّكّابِ المُفلسِين يدفعون لي من أوقاتِهم.
(2)
كلّما دارت عقارب ساعتي شعرت أنّ حياتي لا تمتلئ، بل تتسرّب، حين مرض أحد أبنائي ذات يوم وشارف على فقدان وقته، بعتُ نصف ما أملك لأشتري له وقتًا إضافيًا. بقي على قيد الحياة، لكنّني أدركت أنّ ما اشتريتُه لم يكن سوى تأجيل بائس ليوم الفقد.
الآن صرتُ وحيدًا، كَبر أبنائي وغادرُوا إلى دراساتهم الجامعيّة وأعمالهم، ليسوا في حاجتي بعد الآن، بات في استطاعتهم الاعتماد على أنفسهم، رحلت زوجتي منذ مدّة بعد أن استنفدت كلّ وقتها، وبالنّسبة لي.. لم يتبقّ لي من العُمرِ الكثير، ربّما بضعُ سنوات، لكن أستطيعُ أن أشتري المزيد من الوقت بالقليل الّذي تبقى من مدّخراتي، هذا إن كنتُ أعرف كيف سأقضي هذا الوقت.
وقعت عيناي، مصادفة، على إعلانٍ في إحدى المجلاّت عن رحلة بحريّة رائعة، يستطيعُ المتقاعدون أمثالي قضاء ما تبقّى من أعمارِهم فيها، بدت خدماتُهم ممتعة، وتلك الجولة البحريّة ستطوف العالم، والسفينة في نفس الوقت هي فندق عائم، فيها كثيرٌ من الخدمات المثيرة، إضافةً إلى الزّيارات المُعدّة مسبقًا لأماكن سياحيّة عديدة، حتّى إنّهم جاهزون لتنفيذ خدمات ما بعد الموت، هكذا ذكرت المجلّة كلّ هذه التّفاصيل.
أهملتُ هذا الإعلان بادئ الأمر، ثمّ صرتُ أفكّر فيه بجدّيّة، صحيحٌ أنّ تكاليفَ الرّحلة باهظة، ربّما مدّخراتِي، وما تبقّى لي من وقت، لن يسعفوني لألتحق بهذه الرّحلة، إلاّ أنّه في كلّ يومٍ تطلعُ الشّمسُ فيه يُصبح تفكيري في الأمر أكثر جدّيّةً.
هناكَ حلّ، هو السّوقُ السّوداء، في السّوقِ السّوداءِ يُباعِ الوقتُ بسعرٍ أقلّ من السّوق العالميّ، ما تأخُذُه الحكوماتِ من الأوقات عند معاقبة النّاسِ يعود إلى العامّة ثانيةً عن طريق الأسواق السّوداء، ويعود إليها أيضا بطرق أخرى غير مشروعة، بهذا سأوفّر ما يكفي لألتحق بالرّحلة البحريّة، وما سأشتريه من السّوق السّوداء من وقتٍ.. سيكون كافيًا لأستمتع بما تبقّى من عمري.
مع مرور الأيّامِ، واقترابِ أجلي، يُصبحُ الأمرُ أكثر إلحاحًا، أجريتُ مجموعةً من الاتّصالات، حصلتُ على معلومة عن مكانِ السّوقِ السّوداء، وعلى عنوان البائِعِ الّذي سيمنحني ما أحتاجُه، بائعُ الوقت أصبحَ من الماضِي، الآن بإمكانِ أيّ شخص أن يعبِّئَ الوقت من خلال آلاتِ السّحب الذّاتيّ (ATM) المنتشرة في الشوارع، إلاّ أنّه على ما يبدو لا تواكب السّوقُ السّوداءُ التّكنولوجيا بشكلٍ جيّد.
حذّرونِي من الأزقّة الضّيّقة حيثُ تقبعُ السّوقُ السّوداء، ومن اللّصوص والمجرمين هناك، ذكروا أيضا أن الناس هناك يقايضون أموالهم بلحظات من حياة الآخرين، في مزادٍ صامت لا يعلنه أحد، لكنه يُشعر الجميع بالخسارة، حاولت أخذ كل مقادير الحيطة والحذر التي أخزّنها، وأخفيتُ أموالي بشكلٍ جيّد، ولبستُ ملابس عاديّةً لا تلفتُ الانتباه؛ تجنُّبًا للّصوصِ، وخرجتُ مباشرةً إلى العنوانِ الّذي حصلتُ عليه.
دخلتُ الشّارع الضيّق، شعرتُ أن الجدران تقترب منّي شيئاً فشيئاً، كأنّ الحيّ بأكمله يريد ابتلاعي، كانت رائحة الرطوبة والعفن تختلط بصوت خطواتي المرتبكة على أرضية متشققة كوجه عجوز.
لمحتُ عند المدخل فتى ملثّمًا يراقب الداخلين، عيناه تتبعانني حتى اختفيتُ في الظلال.
قبل أن أصل إلى المحلّ تقدّمتُ بحذر، تناهى لسمعي من الأزقة أصوات همسات متقطّعة وضحكات خافتة وسعال متكرر؛ كأنّ السوق بأسره مصاب بالشيخوخة. لم يكن المحلّ المقصود لافتاً للنظر، كان يبيع تحفاً وقطعاً قديمة يعلوها الغبار، لكن شيئاً في عيني البائع أخبرني أنّه يعرف لماذا جئت، كانت ملامحه مثل بائع وقتٍ سابق فقد وظيفته.
تحدّثنا قليلاً قبل أن أطمئنّ إلى أنّه هو البائعُ المقصود، وضعتُ النقود على الطاولة، لكنّي تردّدتُ قبل أن يملأ ساعتي، وسألت نفسي: هل أريد حقًّا المزيد من الوقت، أم أريد أن أجد معنى لما تبقّى منه؟ سحبتُ يدي ببطء، وتركتُ النقود حيث هي، كأنّي أشتري حريّتي من وهم الخلود.
عبّأ البائع ساعتي وخرجت من عنده جاهزًا لتحقيق مخطّطاتي الأخيرة.
وقفتُ لحظة في منتصف الشارع، نظرتُ إلى ساعتي الممتلئة بالوقت الجديد، لكن شعورًا غريبًا داهمني. أهذا ما يفعله الجميع؟ نشتري الوقت، نستهلكه، ثم نشتري المزيد؟ تذكّرتُ وجه أبي قبل موته، لقد كان صامتًا كأنه فهم شيئًا لم يدركه أحد، وشعرتُ أنّ شيئًا ما ليس على ما يرام، لكنّي هززتُ رأسي بقوة وطردتُ هذه الفكرة: الوقت ليس للتفكير، الوقت للعيش.
انطلقت بخطوات متسارعة، بدا الهواء في الخارج أثقل من قبل. كلّما ابتعدتُ عن المكان شعرتُ بشيء يلاحقني، ظلّ خطواتي صار أطول مني، وفي المنعطف الأخير ظهر الفتى الملثم فجأة... ودفعني بقوّة.
لطالما كنت مدركاً تمامًا لتفاصيل الوقت، أحسبُه بدقّةٍ دائمًا.. حدث كلّ شيء ما بين طرفة عيني وانتباهها، وقبل أن أسقط على الأرض، كان قد أخذ ساعتي واختفى، لم أستطع اللّحاقَ بهِ أو إدراكِ المكانِ الذي توجّه إليه، صرختُ به أن ارجع وأعد لي ما سرقت، لكنّ الصوت ارتدّ إليّ من جدران الأزقة كصدى فراغي، ولن تُسعفني الشّرطة أبدًا، فليس لديّ ما يكفي من المعلوماتِ حتّى تلاحقه.
النهاية اقتربت، نظرتُ في المرآة ودهشتُ: التجاعيد العميقة، العينان الغائرتان، النظارات السميكة... بدا وجهي شبيهًا بشكل مقلق بوجه بائع الوقت العجوز الذي قابلته أول مرة، وكرهت فكرة أنّي قد أصبح مثله، أو ... هل أصبحتُ هو فعلاً؟
اتّجهتُ للشّرفة وجلستُ أتأمّلُ الشّارِع، أنتظِرُ انتهاءَ الأسابيعَ الأخيرةِ من حيَاتِي، مسلسلُ العمرِ يمرُّ أمامَ عينيّ، أحاوِلُ باستماتةٍ القبض على اللّحظاتِ السّعيدة المنقضية، وعبثًا أحاول، يهاجِمُنِي بين الفينة والأخرى شبحُ النّهاية.
صراعُ الأوقاتِ الأخيرة مُضنٍ، بالأمسِ انتحَرَ جارِي عندَما قاربَ وقتُهُ على الانتهاء، وربّما راودتني الآن نفس الأفكار، كثيرُونَ يستسلمون، يلقونَ بأجسادِهم من فوقِ الأسطحِ العالية ليَقضُوا على أنفسهم، بعد الهزيمةِ المُرّةِ في معاركِهِم مع الانتظار. وقليلونَ من يبلُغونَ أراذِلَ العُمرِ منتصرين على الحياة، فالوقتُ غال الثّمن، بالكادِ نقضيهِ في توفير ما يكفي لنعيش أكثر، ثمّ لا يتبقَّى لدينَا ما يكفي لشراء المزيد، أو نقعُ في الفراغ؛ حيث لا طائل من العيشِ أكثر.
كانَ اللّيلُ ساطِعًا بأنوارِ الشّوارِعِ والبناياتِ الغزيرة، في مدينةٍ لا تنام، أجلسُ على الكرسيّ الهزّاز، أعدّ الأيّامَ بملل رتيب، في جعبتي الآن أسابيعُ قليلة، جهّزتُ كلّ شيء من أجل الرّحيل، ضربتُ موعدًا مع أبنائي حتّى يتسنّى لهم القدوم لتوديعي، وأعددت كلّ ما يخصّ جنازتي والمقبرة الّتي سأُدفنُ فيها، وكتبت وصيّتي الأخيرة، وها أنا أنتظر... أنتظر...
لا نجوم الآن في السّماء، الأرضُ مكتسيةٌ بالمصابيح، لا حاجة لنور السّماء.
كنت أنظر إلى الأعلى بهدوء، يكادُ النّوم يُخمِدُ جفنيّ، حين لاحظتُ أضواءً تسطُعُ في السّماء..
ما هذا؟!
كانت الأنوار تتصاعد من كلّ مكان، حتى غمرت الأفق، وقد انتابتني طمأنينة غريبة، ربّما انتابني شكّ في البداية أنّ للحكومة يدٌ في ما يحدث الآن، أو ربّما توقّف الوقت أخيرًا عن المساومة. هل أزفت الساعة؟ مازال لديّ بضعةُ أسابيع، حسبتُ وقتي بدقّة.. أنا لا أخطئ... لكنّني أدركتُ أخيرًا أنّ النهاية ليست خصمًا بل راحةً طال انتظارها.
أغمضتُ عينيّ، وابتسمت...
أحمد علي الفاخري هو الاسم الأدبي للكاتب الليبي أحمد علي أحمد البشير، وُلد في 7 سبتمبر 1986 بمدينة محروقة الشاطئ في ليبيا، ويقيم حاليًا في طرابلس. يحمل درجة الماجستير في الفيزياء من الأكاديمية الليبية للدراسات العليا بجنزور (2025)، ويزاوج في تجربته بين الاهتمام العلمي والاشتغال الإبداعي في مجالي الشعر والقصة. صدرت له مجموعتان شعريتان هما معزوفة الصمت (منشورات وزارة الثقافة الليبية، 2013) وأغنيات للظلال (منشورات مكتبة طرابلس العلمية العالمية، 2022)، إلى جانب مخطوط مجموعة قصصية غير منشورة بعنوان رجل من حبر وماء. نُشرت قصصه وقصائده في عدد من الصحف والمجلات الليبية والعربية، من بينها مجلة القوافي (بيت الشعر – الشارقة)، وصحف قورينا والبيرق والكلمة وشارع طرابلس، ومجلة المرفأ، كما تحصّل على تراتيب أولى على مستوى الجامعات الليبية في القصة والشعر خلال الأعوام 2007–2010. شارك في مهرجانات أدبية وشعرية دولية في المغرب وتونس والجزائر والإمارات وإسطنبول، إضافة إلى مشاركاته المتعددة في المهرجانات والمسابقات الأدبية داخل ليبيا، حيث نال عددًا من الجوائز والتكريمات.

