العروس
تأليف: إبراهيم عبد الجليل الإمام
1
وصل الرقاس (حامل البريد) حاملا أخبارا مفجعة.. لم يكن يحمل رسائل مكتوبة كما اعتاد الناس.. كما أنه لم ينتظر حتى يجتمع الأعيان ليكونوا أول من يتلقى رسالته.. بل صاح بها مذ فتحت له أبواب الواحة صارخًا:
- النصارى يهاجمون اطرابلس.. النصارى يهاجمون اطرابلس.. يا ناس يا هوو.
2
التئم شمل أعيان الأحياء السبعة على عجل في مجلسهم المعتاد للوقوف على الفاجعة.. سأله كبيرهم :
- متى حدث ذلك ؟
- منذ أيام قليلة يا سيدي استيقظنا على وقع البارود.. كان شديدا مفزعا.. كان قادما من جهة البحر.. سفن ضخمة كانت تقذف البارود.
توقف ليلتقط أنفاسه.. كان الفزع بادٍ على ملامحه.. يلهث كأنه يفر من تحت رمي البارود..
سأله أحدهم :
- هل هناك قتلى؟
- كثير يا سيدي.. رجال ونساء وأطفال وشيوخ.. كنا نائمين فايقظنا البارود ...
قاطعه كهل آخر:
- إنهم الفرنسيس.. توقعت ذلك.. كانوا يبيتون شرًا باطرابلس.
اهتزت عدة رؤوس موفقة.. لكن الرقاس هز رأسه نافيا :
- الطلاينة.. إنهم الطلاينة.. هذا ما يتداوله الناس.
حوقلت الألسن واحتسبت.. همهم البعض قال كبير الاعيان أخيرًا:
- ماذا فعل الناس؟
توقفت الهمهمات في انتظار إجابة الرقاس :
- فر خلق كثير بعد أن نزل الجنود من سفنهم وحاصروا المدينة.
عادت الهمهات مجددا لترتفع محوقلة ومحتسبة.. ضرب كهل كف بكف.. سأل كهل آخر:
- ماذا عن والي الأيالة وحاميتها ماذا فعلوا؟
- قرروا القتال.. أفتى الفقهاء والشيوخ بضرورة جهاد المعتدي.
واصل بحماسة:
- يقول الناس أن الوالي أرسل برقية مستعجلة إلى الباب العالي يعلمه بما آلت إليه الأمور ويطالبه بالنجدة.
توقف منتظرًا استفساراتهم.. سأله كهل :
- على ماذا استقر رأي أهلنا هناك.. هل سيغادرون؟
هز رأسه نفيا.. قال بعد فترة صمت قصيرة:
- الجهاد.. إنه رأي الجميع.. إنه يجمعون مالاً لشراء المكاحل والبارود اللازم لحرب الطلاينة ورد عدوانهم.
3
غادر الرقاس بعد أن أفضى بما في جعبته..
حل الوجوم بين أعيان الأحياء السبعة.. تبادلت العيون حوارًا صامتًا.. قطعه كهل بقوله:
- لا أظن أنكم ستكملون النهار بالهمهمة والنظر لبعضكم.. الناس في الخارج ينتظرون.
تنهد كهل آخر قبل أن يقول:
- الطلاينة معتدون مثل الفرنسيس.
قال القاضي:
- ديننا يحثنا على رد العدوان مهما كان صاحبه فما بالك إذا كان هذا المعتدي كافرًا.. كما أن الرقاس قال أن مشايخ الأيالة أفتوا بضرورة مقاتلة الطلاينة.
قال كبير الاعيان :
- لا شك أن الجهاد واجب على كل قادر.
عاد الكهل ليقول:
- القتال يحتاج لرجال والرجال بحاجة لسلاح والسلاح يحتاج مالا لشرائه.
تدخل كهل آخر لأول مرة:
- لنعلن ذلك للناس إذاً.
4
انتشر خبر اعتداء الطلاينة على اطرابلس في كامل الواحة.. كما انتشر ما أسفر عنه لقاء الأعيان بشأن هذا الاعتداء.. لم يكن للناس حديث سوى ذلك الاعتداء في كل المجالس.. حتى في مجالس النسوة ونواديهن في أعلى أسطح الواحة.
بادر بعض التجار بتجميع المال أيضا لشراء السلاح.. النسوة كذلك شرعن في جمع الأموال.. يقال أن زوجة بايوسف نزعت أقراطها الذهبية لتتصدق بها من أجل رد الطلاينة.. تبعتها نسوة كثيرات بالتصدق ببعض حليهن.. قالت عجوز مسنة:
- علينا التصدق من أجل اطرابلس هذه المرة كما فعلنا من أجل رد الفرنسيس عن الجزائر.. تبًا لهؤلاء الكفرة.
5
تناقلت الألسن أن بعض التجار يملكون مكاحل.. اقتنوها لغرض حماية أنفسهم من اي اعتداء قد تتعرض له قوافلهم أثناء سفرهم.. لم تعد لهم بها حاجة بعد توقف تجارة القوافل منذ سنوات قليلة.. أخرجوها من مخابئها وأرسلوا بها لمجلس الأعيان ليتصرفوا فيها.. تسع مكاحل ببارودها ليست بالقليل.. استبشر الأعيان بذلك خيرًا.
بعد صلاة المغرب انتشر خبر جديد.. طغى على ما سواه من أخبار:
- با موحمد([1]) يعرض مكحلة جديدة للبيع!
اعتبر البعض الأمر مجرد مزحة فلم يأبهوا له.. أما اولئك الذين يقتلهم الفضول فلاكوا السيرة كثيرًا.. لم يكن همهم صحة الخبر فحسب بل بحثوا عن تفاصيل أكثر دقة وأهمية :
- من أين حصل عليها وما هو ثمن تخليه عنها؟
تحمس كثير من الشباب للإلتحاق بصفوف المجاهدين المدافعين ليس عن اطرابلس فقط بل عن كامل الأيالة.. فإطرابلس هي البداية كما تناقلت الألسن ولن يتوقفوا حتى يسيطروا عليها كاملة البلاد كما فعل الفرنسيس في أيالة تونس وأيالة الجزائر من قبل.
السلاح.. كان مطلبهم الوحيد للإسراع بالانضمام إلى المجاهدين على اطرابلس.. لن ينتظروا قدوم الطلاينة الكفار بل عليهم هم الذهاب إليهم هناك وطردهم.
6
أسرع يوسف إلى أمه يلتمس عونها لإقناع أبيه بشراء مكحلة باموحمد.
أما سليمان فتحدث مع أبيه دون الحاجة إلى وساطة أمه كسبا للوقت.
كادل كان أكثر حماسة وأكثر حنكة فقرر طرق باب بيت باموحمد بعد صلاة العشاء حتى لا يسبقه إليه أحد.
أما سالم ومحمود وكثيرون فتحسروا لعدم امتلاكهم ما يمكن المفاوضة به للحصول على المكحلة.
اكتشف كادل أنه ليس الوحيد الذي جاء يسعى إلى بيت باموحمد من أجل مكحلته.. وجد عدد من الشباب من عروش مختلفة ينتظرون خروجه إليهم ليفاوضوه.. بشير وسالم وموسى وعثمان وبخاري من عرشه([2]).. أما الآخرين فكانوا من عروش أخرى أو أكبر سنا منه.. خشي أن يفوز غيره بالمكحلة خاصة أن الإصرار بادٍ على وجوههم جميعًا.. خشي كذلك أن يكون ما سيقدمه من أجل المكحلة أقل من أن يغري باموحمد بالتخلي له عنها.. تمنى ألا يخرج باموحمد من بيته.. من الواضح أن صراعا شديدا سيخوضونه للفوز بالمكحلة الوحيدة المعروضة للبيع حتى الآن.
فُتح الباب أخيرًا..
فوجيء باموحمد بالحشد الذي ينتظره.. قال في حزم بعد أن تفرس في وجوههم :
- غدا في سوق تصكو سأعرض مكحلتي أمام الجميع.. وسيفوز بها من يستحقها.
7
أخيرًا وصل با موحمد إلى ساحة السوق التي اكتظت بحشد المنتظرين والفضوليين.. على كتفه علق مكحلته الجديدة .. تمنطق بسير جلدي مملوء بالرصاص.. كان معدن المكحلة صقيلا لامعا.. كما أن ماسورتها أطول مما اعتادوا رؤيته في المكاحل.. سرت همهمات بين الحشد عبروا من خلالها على إعجابهم بالمكحلة الجديدة.. افسحوا له طريقا ليتوسط الساحة.. في صدر ساحة السوق على المصطبة الكبيرة جلس الأعيان ينتظرون بدورهم مصير مكحلة باموحمد.
أنزل المكحلة من على كتفه.. حشى جوفها برصاصة انتزعها من حزامه.. قال بعد أن وجه فوهتها إلى السماء :
- هذه مكحلتي.. اسميتها العروس.. توقعت أن بلادنا ستكون هدفا للنصارى ذات يوم.. لن يتركونا نهنأ بعيشنا.. اشتريتها من تاجر تونسي منذ سنوات لهذا الغرض.. قال أن أحدهم غنمها من عسكر فرنسا.
ضغط زنادها لتنطلق رصاصتها بدوي هائل .. ارتفعت أصوات الاستحسان والتصفيق.. سُمعت زغاريد من الأسطح القريبة من ساحة السوق ايضًا.. أضاف:
- لو كنت قادرا لذهبت بنفسي من أجل اطرابلس.. ولو كان لي ولد لأرسلته بها.
صاح شاب من بين الحشد :
- كلنا أولادك يا باموحمد.. كما تريد ثمنا فيها؟
- لكل عروس مهر.. فليقدم كل راغب في عروسي مهره.
عم الصمت ساحة السوق.. أضاف باموحمد:
- العروس عادة ما تزف بكامل زينتها:
نزع حزام الرصاص من وسطها وأضاف:
- تسعة وتسعون رصاصة ستزف مع العروس.. فمن يتقدم لخطبتها؟
8
كان أسماعيل أول المتقدمين.. توسط الجمع.. دون أن يتفحص العروس قال :
- مائة مجيدي([3]).
علت همهمات من الحشد بين متحمس ومستنكر لضآلة المهر.. أشار باموحمد برأسه رافضًا.. تقدم محمد تفا([4]) هذه المرة بجسمه النحيف.. سرت همهمات استخفاف به قبل أن يقطعها بقوله:
- ثلاثة مائة مجيدي يا باموحمد.
- ليست لك يا فتى فتأخر لنرى غيرك.
هذه المرة كان المتقدم يوسف... عم الصمت مجددا في انتظار ما سيقدمه مهرا للعروس.. فيوسف ابن عائلة موسرة.. وضع قرطين ذهبيين كبيرين في يد با موحمد.. تفحصهما قليلا ليعيدهما إلى يوسف الذي تأخر في شيء من الغضب.
قال باموحمد ملوحًا بمكحلته:
- هل من خاطب للعروس؟
خيم صمت على الحشد.. تبادل المتنافسون الثلاثة النظرات في استسلام.. كان كادل يراقب كل ما يحدث أمامه متحسرا فما في جعبته لا يساوي نصف ما قدمه سابقيه الثلاثة.
من خلف الجموع صاح صوت أجش:
- نخلة تيسوين([5]) في انزوغار هل تكفي مهرا؟
التفت الحشد لا ليتبين صاحب الصوت بل ليتأكد منه.. كان ذلك باعومر الذي رفع من وتيرة المزاد .. تعالت همهمات الاستحسان من مصطبة الأعيان هذه المرة .. لن يعود المزاد إلى الأقراط والمجيديات الآن بعد أن وضعت نخلة في كفة والعروس في الكفة المقابلة.. لم يكن الحشد يجهل قيمة نخلة تيسوين التي تعد أجود ما تنتجه الواحة من تمر.. اتجهت أنظار الحشد إلى باموحمد تنتظر قراره.. حل الصمت مجددًا.
قطعه هذه المرة صوت آخر.. لم يكن من الحشد ولا من المنافسين الأربعة ولا من باموحمد.. لقد دخل غريم جديد للمنافسة على خطبة العروس.. إنه بامتيضن([6]).. لم يكن مجرد منافس بل أحد كبار التجار في الواحة.. قال:
- أعتقد أن نخلة تمودي وأخرى من تيسوين كافية مهرًا لعروسك.
كان رد باموحمد مدويا عندما أطلق رصاصة جديدة من مكحلته لتشعل المنافسة.. تعالت همهمات الاستحسان متبوعة بزغاريد من الأسطح المجاورة كانت أقوى هذه المرة.
توقع الحشد أن هذا الطلقة تعلن نهاية المزاد.. فهذا أفضل عرض يقدم لمكحلة: نخلتان من نوعين مختلفبن من التمر.. لكن صوتا جديدا قرر أن يقول كلمته.. كان هذه المرة قادمًا من المصطبة التي جلس عليها الأعيان.. باموسى كان صاحب العرض الجديد.. لقد اضاف نخلة اخرى ليضرب به عرض بامتيضن:
- نخلة تندغوت في سواني تنبيشي بالإضافة لنخلة تمودي وأخرى من تيسيوين في غابة انزوغار.
- يبدو أن العرض كان أقوى من أن ينافس.. فثلاث نخلات تعد ثروة تكفي لإطعام عائلة لعام كامل.. تفرس باموحمد في الوجوه السبعة المنافسة.. كان من الواضح أن الأمر أخذ منحًا مختلفًا وسلك دربًا مغايرًا.. لم يعد الأمر مزادا على مكحلة بل تعداه إلى السمعة.. فالخاسر سيكون حديث المجالس بينما الفائز سينال من الثناء ما ستحمله أجيال لم تولد بعد.. ربما ستصوغ النسوة فيه شعرا يغنى في محافل الأنس وليالي الأعراس.. الأمر صار يمس كرامة المتنافسين.. ربما سيسمى هذا العام عام المكحلة أيضًا.
هذا ما جعل الحشد صامتا مترقبا منتظرا ما تسفر عنه هذه المواجهة.. همّ باموحمد أن يطلق عيارا آخر من مكحلته ليشعل المنافسة.. لكن صوتا حاد أوقفه.. كان هذه المرة صوت جديد من وسط الحشد صرخ قائلًا:
- توقف يا باموحمد عن إطلاق الرصاص.. هل ترضى مقابل كل رصاصة من رصاصاتك راس طلياني؟
كان هذا كادل.. تقدم إلى وسط ساحة سوق تصكو ليراه الجميع.. أضاف:
- ثمانية وتسعون إيطاليًا مهرًا للعروس.
سرت همهمات استحسان بين الحشد.. تفرس باموحمد في وجه كادل.. التفت إلى الأعيان الذين يراقبون ما يحدث وابتسامة رضا ترتسم على محياهم.. أخيرًا قال:
- أنت عريسها.. هي لك يا بني.. أنت فارسها وصاحبها.
كبر الحشد فرحا:
- الله أكبر... الله أكبر.
تعالت الزغاريد من الأسطح.. تقدم كادل إلى باموحمد ليستلم منه المكحلة بحماسة.. نزع باموحمد حزام الرصاص ليقلده له.. قبل أن ينفض الجمع أوقف بامتيضن الحشد بحركة من يده:
- نخلاتي الثلاثة أيضا ستكون صدقة جارية لشراء السلاح.
كبر الحشد مجددا:
- الله أكبر... الله أكبر.
تقدم إسماعيل نحو المصطبة التي يجلس عليها أعيان الواحة.. وضع المال الذي تقدم به للمزاد بين أيديهم.
تبعه محمد تفا ليضع الثلاثمائة مجيدي التي بحوزته أيضا بين يدي الأعيان... تبعهما يوسف ليضع قرطي امه أيضًا.. صاح با عومر بصوته الجهوري:
- ثلاث نخلات من نخيلي فداءًا لاطرابلس.
تعالت التكبيرات واختلطت بالزغاريد.
________________________________
[1] - با لفظة تبجيل واحترام تسبق اسم العلم الذكر.
[2] - العرش يطلق على اسم الحي في غدامس القديمة.
[3] - المجيدي عملة عثمانية نسبة للسلطان عبد المجيد، كانت متداولة في ذلك الوقت.
[4] - تفا: هو الاسم المحلي لمصطفى.
[5] - تيسوين اسم لاحد اجود أنواع التمور في غدامس.. انزوغار اسم لمنطقة زراعية مهمة في واحة غدامس مهورة بجودة نخيلها.
[6] - متيضن تعني الصغير بلسان غدامس القديم .
وُلد إبراهيم عبد الجليل الإمام في مدينة غدامس بليبيا، وتخرّج في كلية تقنية الطيران المدني والأرصاد الجوية، قبل أن يتجه إلى العمل الإبداعي والبحثي بوصفه كاتبًا وقاصًا وروائيًا وباحثًا في التاريخ. أصدر عددًا من الأعمال القصصية والروائية التي تنوّعت بين السرد الواقعي والتخييل والأسطورة، من بينها: قطرات من ذهب (قصص وأساطير)، جمهورية العسل (قصص)، أمم أمثالنا وبوابة الصحراء (مجموعتان قصصيتان)، إلى جانب رواياته: الشاغة، رسالة من الرجل الميت، أشلّيد، ما وراء الواقع، قطط لا تموء، أهل السافلة، نقطة انطلاق، حجر غدامس، الحرز، ونبش في ذاكرة التاريخ، إضافة إلى كتابه في الأدب الساخر يوميات واحد محظوظ. وقد تُرجمت بعض أعماله إلى اللغتين التركية والإنجليزية، ما أسهم في وصول تجربته السردية إلى قرّاء خارج الفضاء العربي.

