المخاض
تأليف: أمل الصادق النائلي
أنتظرُ خروجي من هنا، فبعد أن كنت أسبح بحريّة حُشرتُ الآن بين أشياء لا أعرفها.
تلاشت قدرتي على الحركة بخفّة، واختفى صوت أخي، ناديته كثيراً ولم يردّ عليّ، ظننته لا يزال غاضبا من حديثنا آخر مرة حتى سمعتُ أمي تدعو أن تلقاه هو في الجنة، وتتمتع بي أنا في الدنيا، تعجبتُ لهذه المفارقة، وفهمتُ أن أخي لن يردّ عليّ أبداً.
أجلس الآن محشورا لا أكاد أتنفس، وأتذكر حياتي مع أخي، أتوق حقا إلى تلك الأيام التي كنا فيها صغارا نسبح ونتقلّب، لا نحمل هما ولا يشغلنا شاغل، حتى لحظات شجارنا أجدها الآن ممتعة، لقد مضى بنا العمر سريعا.
حين كنت صغيرا، لم يكن يرهقني من الوجود شيء سوى أن تخرج أعضائي من منبتها كي أحركها وأسبح بحرّية وألهو كما يحلو لي مع أخي، كان أخي رفيق حياتي منذ أن أودعنا نطفتين في رحم أمنا وكبرنا وتخلقت أعضاؤنا، ورغم علمنا أن المخاض آت لا محالة فإننا لعبنا واستمتعنا بكل لحظة من حياتنا كأنها أبدية.
أخي كان طيبا وهادئا وقليل الحركة، حين كبرت قليلا وميّزتُ صوت أمي كنت أسمعها تحكي عن الراحة التي تنعم بها في جسدها من ناحية أخي، وعن الألم الذي يصيبها من جهتي بسبب لعبي، وحين أخبرت أخي بأن أمي تفضّله عليّ بسبب كلامها، ردّ متسائلا: "متى ستهجر نظرتك السوداوية؟"، لطالما وصفني أخي بأني سوداويّ ومظلم وأحمل على عاتقي وساوس تكفي نُطف العالم بأسره! في الحقيقة لم أكن سوداويا بقدر ما كان أخي متفائلا في سذاجة ومقبلا على الوجود في جهالة، كان يصدّق كل ما يسمع ببلاهة تستفزني أحيانا، وتجعلني أغبطه أحيانا أخرى، حتى إني تمنيتُ كثيرا لو كنت مثله.
كلّ هذا لم يكن يشكّل عندي مشكلة، كان هاجسي الحقيقي يكمن في حياتنا بعد المخاض، كلّما اقترب المخاض سألت نفسي عن حقيقة الولادة، وما سيحدث بعدها، أحقا هناك دنيا سنعيش فيها سنوات تبدأ بصرخة؟ سنأكل من دون حبل، وسنمشي على أقدامنا؟ لن يكون هناك كيس يحملنا وسنصبح بشرا لا نُطفا؟ هذا ما كان يؤرقني وهو بذاته ما جعلني في خلاف دائم مع أخي، كان يزعجه أني لست مؤمنا بكلّ هذا، كان يرى في شكّي تخليا عنه في المستقبل، وكنت أرى في إيمانه استهزاء بعقلي الآن!
اقتربت من كيسه ذات مساء وفي نيتي أن أكاشفه عما يختلجني، وأخبرته أني أحتاج إلى محادثته قليلا، رحّب بي على الفور كعادته وقلب رأسه وجلس يقابلني قائلا: أنا أيضا عندي ما أخبرك به، أظنني خمنتُ أخيرا ما كان يحدث معي، لقد سمعتُ أمي تشكو لجدتي من حرقان في أعلى معدتها، وجدّتي أخبرتها بأن ما يحدث بسبب نموّ شعر رأسينا، وسمعت كلاما غريبا عن أننا سنصبح في حياة أخرى بشعر كثيف، المهم أنني تحسستُ رأسي ووجدتُ فعلا شيئا ملمسه عجيب لم أعهده من قبل! يبدو أننا كبرنا حقاً! ولكن ألم تشعر أنت بشيء من هذا؟
أجبتهُ: ربما، لستُ متأكدا فأنا مشغول بأمر آخر! أفكر في هذا الذي نسمعه دوما عن حياتنا القادمة.. أخبرني أتؤمن حقا بالحياة التي سنعيشها بعد المخاض؟ أم أن كلّ هذا محض وهم ومصيرنا إلى العدم؟
أجاب: لا تقلق سأخرج قبلك وأتأكد من وجود الدنيا ثم أعود وأخبرك.
قلتُ: إذا كنت ستبدأ بالسخرية فسأصمت خيرا لي.
أجاب ضاحكا: كفى يا رجل إني أمازحك، هات ما عندك، من أين فقط تأتي بهذه الأفكار؟
أجبته: لا أدري لقد أوشك العمر على الانتهاء واقتربنا من المخاض، وكثيرا ما تساورني شكوك بخصوص حياتنا القادمة وما سمعناه عنها، هل تؤمن حقا بوجود الدّنيا؟ ماذا لو كانت محض كذبة وبعد المخاض يؤول بنا الحال إلى العدم؟ ماذا عن صرخة الحياة؟ نصرخ فتبدأ حياتنا! أيُعقل هذا!؟
أجابني: أما العدم فلا يمكن أن يكون مصيراً في كل الأحوال، نحن فقط سننتقل من دار إلى دار يا أخي وأما الشكوك التي تساورك فمهما جادلتك فإن أدلتي لن تُجدي نفعا، ولا أملك إلا أن أذكرك بأن تبحث عن الإيمان في قلبك، وعن شوقك للقاء أمنا وأبينا!
قلت له: وهل تُصدّق هذا أيضاً؟ ماذا لو كان الأم والأب خرافة من صُنع النّطف على مر التاريخ!
ردّ بصوت هادئ: لن أخفي عليك خوفي من المخاض، بل إني أرتجف كلما اقترب موعده، هذه سنّة حياتنا لكنّي سلّمت أمري، ولولا هذا الإيمان الذي يغمر قلبي عن حياتي القادمة لما صمدت في وجه الحياة هنا!
تغيّر صوته وأكمل بنبرة يشوبها الإحباط: لم يكن سهلا عليّ أن أعيش هنا في جهاد مستمر لأثبت نفسي أمام أخٍ لا يتوقف عن الحركة واللعب والدوران، بحيويّته كان يسرق مني لمسة يد أمي لأنها كانت دون أن تشعر تضع كفها ناحيتك في كل مرة شعرتْ بحركة ما، لم أكن أجيد الركل، لستُ سريعا وحجمي أصغر من حجمك، فكيف كنتُ سأعيش لو لم يكن قلبي عامرا بالإيمان؟ ربما لم تختبر ألما يكسر قلبك فتضع كل آمالك في صبرك، بل في أملك في العيش حياة أخرى عادلة.. ثم إننا لسنا وحدنا في هذا، ملايين النطف عاشت مثلنا ومصيرنا لن يختلف عنهم، والإيمان لا يُختبر بالأدلة وإنما بالتّسليم، ولن أطلب منك أن تؤمن بما آمنت به ولكني أعدك رغم كل هذا إذا حانت لحظة المخاض أن أمدّ رأسي أولا؛ إن وجدت شيئا سألمسك بقدمي لتطمئن، وإن لم أجد شيئا فسنفنى معاً..
صرختُ في وجهه منفعلاً: توقف عن الغباء، إنك حقا ضعيف في كلّ شيء، جسدا وعقلا؛ أحدّثك عن العدم وتحدثني عن الإيمان، أخبرك عن شكوكي وتخبرني عن شعورك.. ما هذا؟ متى سأشعر بأني أخوض معك حديثا عميقا؟ لقد سئمت تفاهتك، وسئمتُ أن..
وفجأة بينما أنا أصرخ في وجهه شعرتُ برعشة في جسدي ودوار خفيف وضاق بي المكان وتغيرت رائحته وانقطع صوتٌ ما كان ينبض مستمراً منذ أودعتُ هنا، ناديته كثيرا ولم يردّ عليّ، حاولت أن ألتصق بكيسه وألمسه لكنه لم يحرّك ساكنا، ظننته غضب من كلامي وظننته سئم من شكوكي، وظننتُ أن شيئا ما أصابني في جسدي، لأني بعد ما حدث لم أعد أركل أمي كما كنت أفعل من قبل وهدأتْ حركتي كثيرا، وعرفت بعد أيام أن هذا بسبب توقّف قلب أخي عن النبض، اكتشفتُ أن ما كان يشعرني بالحماس لألعب هو صوت نبضه، وركلي لأمي ما كان إلا شقاوة أقوم بها لنضحك سوياً، وجود كيسه خلفي كان يدعمني، وكلامه كان يؤنسني.
تألمتْ أمي كثيراً ولا أعرف إن كانت حزينة لأنها فقدت أخي أم حزينة لبقائي أنا بدلا منه! لكني في كل الأحوال تمنيتُ لو سمع أخي كلامها عنه وعن حزنها العميق لفقدها إياه وعن شوقها للقياه في الجنة، آه نعم سمعتُ الآن أن هذه الجنة هي المرحلة الثالثة والأخيرة للّقاء وأن هذا العناء سيختتم بالخلود يوما ما، هذه معركة جديدة أشك في قدرتي الآن على خوضها.
أجلسُ الآن محشورا بين أعضاء أمي، أحبس أنفاسي في كل مرة تدفعني، فهمتُ أنها تهيّئني للمخاض، أُعتِم المكان ولم أعد أرى شيئا، أفكّر في كل شيء دفعة واحدة، الولادة والعدم، صرخة الحياة والممات ثم الخلود، لا أعرف إن كنت قد أيقنت بكلّ هذا حقا.. لكن أوه ما هذه الضجة؟ ما هذا الغثيان؟ لماذا تصرخ أمي هكذا؟
أكاد أختنق، أنفاسي تتلاشى، ضاق بي المكان! هل كنت مُحقا؟ أهذا هو العدم أم تراه المخاض؟
لا أصدّق أني سأعيشه وحدي دونك، أين دنياك؟ أين وعدك لي؟ أريده الآن!
أين أنت أخي؟ يا لغبائي كيف لم أنتبه أنّ ألم غيابك جعلني أؤمن باللقاء وأرجوه؟
إنه المخاض..
أقبضُ على كفي بقوة، أحاول التشبّث بالأمل، في ظلامٍ دامسٍ ها أنا أرى نورا ينبعث من ثقب صغير كلما ضاقت أنفاسي ازداد سعة.
نعم إنه المخاض، وسأصرخ الآن مرتين: مرة في وجه الحياة ومرة في وجه نفسي.
***
أمل الصادق النائلي، مواليد طرابلس 1992م. باحثة وناقدة مهتمة بعالم القصة والرواية، ومؤسسة نادي همزة للقراءة، ونادي قصة للأطفال، تسعى من خلال دراستها ومراجعاتها لتقديم قراءة متعمّقة للأعمال الأدبية، وتَعتبر الحكاية جسرها الخاص للتعبير عن رؤيتها في الحياة. "المجدُ لعالم الحكاية" هو الشعار الذي تتبناه، وجعلته محور خطابها في حدث Tedx Almadina.

